« الكتاب نِعْم الذخر والعدة، ونِعْم الجليس والقعدة ،
ونعم النشرة والنزهة ، ونعم المشتغل والحرفة ، ونعم الأنيس ساعة الوحدة ،
ونعم المعرفة ببلاد الغربة ، ونعم القرين والدخيل ، ونعم الوزير والنزيل ،
الكتاب وعاءٌ مُلئ علماً، وظرف حُشي ظرفاً ، إن شئت كان أعيا من باقل ، وإن
شئت كان أبلغ من سحبان وائل ، وإن شئت ضحكت من نوادره ، وإن شئت بكيت من
مواعظه ، ومن لك بواعــظٍ مثله ، وبناسـكٍ فاتكٍ ، وناطقٍ أخرس ، ومن لك
بطبيبٍ أعرابي وهندي وفارسي ويوناني ونديمٍ مولد، ووصيفٍ ممتع ، ومن لك
بشيء يجمع الأول والآخر والناقص والوافي ، والشاهد والغائب ، والرفيع
والوضيع ، والغث والسمين ، والشكل وخلافه ، والجنس وضده ، وبعد .. فما رأيت
بستاناً يحمل فـي ردن وروضة تنقل فـي حجر ينطق عن الموتى ويترجم عن
الأحياء غيره ، ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك ، ولا ينطق إلا بما تهوى ،
آمن مَنْ فـي الأرض وأكتم للسر من صاحب السر ، وأحفظ للوديعة من أرباب
الوديعة ، ولا أعلم جاراً أبرَّ ، ولا خليطاً أنصف ، ولا رفيقاً أطوع، ولا
معلماً أخضع، ولا صاحباً أظهر كفاية ولا عناية ، ولا أقل إملالاً وإبراماً ،
ولا أبعد عن مراء ، ولا أترك لشغب ، ولا أزهد فـي جدال ، ولا أكف عن قتال
من كتاب ، ولا أعلم بياناً ، ولا أحسن مؤاتاة ، ولا أعجل مكافأة ، ولا شجرة
أطول عمراً ، ولا أطيب ثمراً ، ولا أقرب مجتنى ، ولا أسرع إدراكاً ، ولا
أوجد فـي كل إبان من كتاب ، ولا أعلم نتاجاً فـي حداثة سنه وقرب ميلاده
ورخص ثمنه وإمكان وجوده ، يجمع من التدابير العجيبة والعلوم الغريبة ومن
آثار العقول الصحيحة ومحمود الأذهان اللطيفة ، ومن الحكم الرفيعة والمذاهب
القديمة والتجارب الحكيمة ، والأخبار عن القرون الماضية والبلاد المتراخية
والأمثال السائرة والأمم البائدة ما يجمع كتاب ، ولولا الحكم المخطوطة
والكتب المدونة لبطل أكثر العلم ، ولغلب سلطان النسيان سلطان الذكر ، ولما
كان للناس مفزع إلى موضع استذكار ، ولو لم يتم ذلك لحرمنا أكثر النفع ، ومن
لك بصاحب لا يبتدئك فـي حال شغلك ولا فـي أوقات عدم نشاطك ولا يحوجك إلى
التجمل والتذمم ، ومن لك بزائر إن شئت جعلت زيارته غباً ، وورده خمساً ،
وإن شئت لزمك لزوم ظلك .
والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك ، والصديق الذي لا
يقليك ، والرفيق الذي لا يَمَلَّك ، والمستميح الذي لا يؤذيك ، والجار الذي
لا يستبطئك ، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق ، ولا يعاملك
بالمكر ، ولا يخدعك بالنفاق . والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك ، وشحذ طباعك،
وبسط لسانك ، وجوَّد بيانك ، وفخَّم ألفاظك ، وعمَّر صدرك ، وحباك تعظيم
الأقوام ، ومنحك صداقة الملوك ، يطيعك فـي الليل طاعته بالنهار ، وفي السفر
طاعته فـي الحضر ، وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يحقرك ، وإن قطعت
عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة ، وإن عزلت لم يدع طاعتك ، وإن هبَّت عليك
ريحُ أعدائك لم ينقلب عليك، ومتى كنت متعلقاً به ، ومتصلاً منه بأدنى حبل
لم يضرك منه وحشة الوحدة إلى جليس السوء ، وإن أمثل ما يقطع به الفراغ
نهارهم وأصحاب الكفاية ساعة ليلهم نظرة فـي كتاب لا يزال لهم فيه ازدياد
أبداً فـي تجربة وعقل ومروءة وصون عرض وإصلاح دين ومال ورب صنيعة وابتداء
إنعام .
ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلا منعه لك من
الجلوس على بابك ونظرك إلى المارة بك مع ما فـي ذلك من التعرض للحقوق التي
تلزم ، ومن فضول النظر، وملابسة صغار الناس، وحضور ألفاظهم الساقطة ،
ومعانيهم الفاسدة ، وأحوالهم الردية وطرائقهم المذمومة ، وأفعالهم الخبيثة
القبيحة ، لكان فـي ذلك السلامة، ثم الغنيمة وإحراز الأصل مع استفادة الفرع
.
ولو لم يكن فـي ذلك إلا أنه يشغلـك عن سخف المنى وعن اعتيــاد
الراحة وعن اللعب وكل ما أشبه ، لقد كان فـي ذلك على
صاحبه أسبغ النعمة وأعظم المنَّة ، وهو الذي يزيد فـي العقل ويشحذه ويداويه
ويهذبه وينفي الخبث عنه ، ويفيد العلم ، ويصادق بينك وبين الحجة ، ويقودك
للأخذ بالثقة ، يعمر الحال ، ويكسب المال ، وهو منبهة للمورث، وكنز عند
الوارث؛ غير أنه كنز لا زكاة فيه ، ولا حق للسلطان يُخرج منه، هو كالضيعة
التي لا تحتاج إلى سقي ولا إسجال بإيغار، ولا إلى شُرط ولا أكار، وليس
عليها عشر للسلطان ولا خراج، ولولا ما رسمت لنا الأوائل فـي كتبها ،
وخلَّدت من عجيب حكمها ، ودوَّنت سيرتها حتى شاهدنا بها من غاب عنا، وفتحنا
به كل منغلق، فجمعنا فـي قليلنا كثيرهم وأدركنا ما لم ندركه إلا بهم ...»